الكلابُ تنبح والقافلة تسير. فلقدْ مات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتَرَك مِن خَلْفه قادةَ الدنيا، ومصابيحَ الزمان. لقدْ ورَّث ميراثًا عمَّتْ بركته أرجاءَ الأرض، وملأتْ نفوسَ العالمين، حتَّى بلغت دولة الإسَلإمَ مِن الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا، ومِن فارس شمالاً إلى إفريقيَّة جنوبًا. إنَّها قارَّة الإسَلإمَ! ثم عُدتُ مِن ذِكرياتي تلك شديدَ العَجَب، لَكَمْ أضلَّ الشيطان جِبِلاًّ كثيرًا، أفلم يكونوا يعقلون؟! كيف يَصْطفي الله تعالى نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم لا يصطفي له؟! كيف لا يَصْطفي له أزواجَه اللاتي ينقلُنْ للأمم مِن بَعْدُ فِقهًا يعِزُّ نقلُه على كبار الصحابة، فمَن مِن الصحابة يبيتُ معه ويصبح، ويَرَى سِرَّه الذي لا يَراه غيرُهنَّ؟! كيف لا يصطفي له أصحابَه الذين يحملون دِينَه؟! أيموت والصحابة آلافٌ وآلاف ثُمَّ لا يكون منهم مؤمن إلاَّ أفرادًا أربعة؟! أكان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا مخدوعًا في أتباعه وأهله؟! أم لم يُميِّزِ الطيِّبَ من الخبيث، فوضَع الثِّقة في غير أهلها؟! أمْ خَدَعه الله - وحاشَا لله - فجعَل أهلَه أعداءَه؟! إنَّ هذا لا يفعله أبٌ بابنه العاق، فكيْف بالله مع رُسْله وأوليائه؟! تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. إنَّ ذلك علينا واجبٌ، أنْ نذكر أحبَّاءَ الله، وكلَّما صرَخ شيطانٌ بضلالِه، وجَب علينا أن نصدحَ بحقِّنا، ليس دفاعًا عنه، وإنَّما ليَزيد أهل الباطِل حسرةً على حسرتهم، كما يَحْثُو الشيطان على رأسه الترابَ إذا سجَد ابنُ آدم مخبِتًا لله ربِّ العالمين. تقدير الله تعالى لعائشة - رضي الله عنها -: كانتْ عائشةُ - رضي الله عنها - مُقدَّرةً ومُقدَّرًا لها، فكان أوَّل ذلك النَّسَب؛ فأبوها أبو بكر الصِّدِّيق يلتقي بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جَدِّه مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر، وأمُّها أم رومان يَنتهي نسبها إلى كِنانة. فهي تمتُّ للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصِلة قرابة مِن الأب والأم. وثاني ذلك أنَّ الله تعالى قدَّرها زوجًا للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تقديرًا؛ روى الطبرانيُّ في "المعجَم الكبير" عن ابن عبَّاس يفسِّر قوله - تعالى -: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِين ﴾ [النور: 26]، أنَّ الله تعالى "يُريد بالطيباتِ عائشة؛ طيَّبها اللهُ لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتاه بها جبريلُ - عليه السَلإمَ - في سَرَقةِ حرير قبل أن تُصوَّر في رَحِم أمِّها، فقال له: هذه عائشةُ بنت أبي بكر زَوجُك في الدنيا، وزوجُك في الآخرة..." الحديث. فعائشةُ - رضي الله عنها - زوْج خيرِ الناس، محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وابنةُ خير الناس مِن بعده، أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان زواجُها بُشرى، نزَل بها إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - جبريلُ - عليه السَلإمَ - الذي نزَل عليه بالقرآن. وكان مِن تقديرِ الله لها أنْ كانت في جِيلها سريعةَ النمو، فارعة البنيان، وكان ذلك مِن إعداد الله تعالى لها؛ وهي تَحكي: "تزوَّجني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لسِتِّ سِنين، وبني بي وأنا بِنتُ تِسع سنين، قالت: فقَدِمْنا المدينة فوُعكِتُ شهرًا فَوفَى شَعِري جُمَيْمَة،..."؛ الحديث [مسلم: 3544]. والبيئة العربيَّة تُنضِج الأجسادَ بأسرعَ ممَّا تفعله غيرُها من البيئات. عائشة - رضي الله عنها - زوجةً: كانتْ عائشة - رضي الله عنها - خيرَ زَوْجة، كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَغتسِل معها في إناءٍ واحدٍ، حتى يقول: ((دعي لي)) وتقول: "دَعْ لي"؛ [مسلم: 758]، وكان يُسابِقها وتُسابقه، فسبقتْه صغيرةً، وسبقَها كبيرةً، وقال: ((يا عائشةُ، هذه بتلك))؛ [الصحيحة: 131]. وقد استفاضتِ الأخبار بحُبِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشة، حتى سُئِل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: ((عائشة))، قيل: فمِن الرجال؟ قال: ((أبوها))؛ [صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3890]، ولم يقل: أبو بكر. وحتى حين أرْسل أزواجُه فاطمةَ إليه ينشدونه العَدْلَ في عائشة - وما رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، بعادلٍ عن الحقّ فيها - قال لها: ((أتُحبِّينني؟)) فقالتْ: نعَم، قال: ((فأَحبِّيها))؛ [صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 3946]، فلم يُصرِّح بحبِّها فقط، وإنَّما أمَر بأن نحبَّها كذلك. وذكَر أنَّ فضْلَها على النساء كفضلِ الثَّريد على سائرِ الطعام؛ [البخاري: 3411]. ولذلك كان الناسُ يتَحرَّوْن بهداياهم يومَها؛ طلبًا لرِضا رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.