هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالتسجيلدخولأحدث الصورإلبـــوإبه !

شاطر | 
 

 الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
مُساهمةموضوع: الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد   الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد Emptyالجمعة سبتمبر 02, 2011 1:36 pm

حلقة الأولى



بدأت آشعة الشمس تتسلل ببطء عبر ذلك الشباك الحديدي العالي وتزحف اليه في جلسته التي لا يكاد أن يغيرها إلا نادرا .. فقد كان جالسا ضاما اليه رجليه وواضعا رأسه بينهما ولا أحد يدري هل ينام هكذا طوال الليل أم لا .. وما إن بدأت آشعة الشمس في الصعود اليه ولفحته بدفئها الساحر حتى رفع رأسه ونظر نحو ذلك الشباك العالي وحدقته تضيق بقوة لمدة ثانيتين ثم مد قدميه أمامه وارتكن برأسه إلى الحائط وكان ضربا من الخيال أن يعلم أحدهم أو يشعر بما يعتمل داخله ..


خمسة أشهر مرت عليه في هذه الزنزانة التي يعدها البعض قاسية موحشة .. في حين أنه لم يكن يشعر بالكون من حوله حتى أنه ليخيل اليه بأن التركيب الكيميائي للمشاعر والأحاسيس بداخله قد أصبحت مختلفة تماما عن كل البشر ..


قد يكون هو السجين الوحيد في هذا الكون الذي ينتظر يوم إعدامه بمنتهى اللهفة ..
منذ أو ولجت قدماه هذا السجن وهو صامت منعزل لا يتفوه بحرف أبدا .. وقد كان هذا يضفي عليه غموضا ورهبة لا مثيل لهما ..


في البداية ظنوا بأن تلك هي مشاعر الصدمة الأولى بعد ارتداء حلة الإعدام الحمراء .. والتي لا تتعدي عدة أيام ثم بعدها يظل متلهفا لنزول معجزة عليه من السماء تنقذه من حبل المشنقة الغليظ كما يحدث مع الجميع ..
ولكن مر شهر كامل وهو هو صامت منعزل وحيد لا يبدي حراكا أو أي رد فعل .. حتى وجباته البسيطة قليلا ما يتناول إحداها ..
ذات يوم حاول أحد أشقياء السجن استفزازه بعد أن تراهن مه رفاقه على أنه سيجبره على النطق
ذهب اليه وقاله له .. (( أريد وجباتك التي لا تتناولها بدلا من تركها هكذا تفسد .. ))
لم ترمش حتى عيناه دلالة أنه استمع لحرف ..
أعاد الرجل عليه نفس الجملة بصوت عالٍ ولم يجاوبه سوى الصمت ..
فمد يده ليهزه قائلا .. (( هل تسمعني يا رجل ))
وبسرعة البرق وفي رد فعل صاعق أمسك بذراع الرجل الذي امتد نحوه بكلتا يديه ورفع ركبته ليهبط فوقها بهذا الذارع بقوة كاسرا إياه كأنما هو عصاة جافة ورقيقة ليجلجل في ساحة السجن صوت الرجل صارخا من الألم بينما تحرك هو بمنتهى الهدوء والبطء مبتعدا عنه ..


وقتها علم رواد السجن مع أي وحش يقيمون .. فليس عجيبا على رجل كان حكم الإعدام عليه بسبب أنه قتل ولده برصاصة مباشرة في الرأس أن يفعل هذا
وبعدها تم منعه من التريض خارج زنزانته ليظل بها منتظرا ذلك اليوم الغير معلوم ليتدلي مكسور الرقبة منزوع الروح جزاءً على ما اقترفت يداه ..
وفُتح باب زنزانته بصريرها المعتاد ليضع الشاويش محمود وجبته بجانبه وليقف لأول مرة سائله


.. (( هل تريد وجبة خاصة للغداء اليوم ؟؟ .. ))
ولأول مرة يكن هناك رد فعل مباشر على حديث موجه اليه .. فقد رفع رأسه ولمعت عيناه وهي تنظر نحو الشايش محمود في تساؤل واضح لا يحتاج لأن يترجم بالنطق المباشر ..
ارتبك الشاويش محمود وقد علم مغزى السؤال الإثيري هذا .. فرد عليه قائلا .. (( نعم غالبا هذا هو اليوم الموعود .. ))
ولعجب الشاويش محمود فقد لمح شبح ابتسامة سريعا ما اختفت وعاد الرجل ليرتكن بظهرة ورأسه مرة أخرى نحو الجدار الصلب الجاف ..
وخرج الشاويش محمود ليذهب مع رفاقه لإعداد المنصة وتجربتها قبل أن يأتي الوفد المصاحب لعملية الإعدام ..
وعلى نقيض كل من سبق في هذه الزنزانة .. لم يرتعد ولم ترد إلى ذهنة أي خيالات مرعبة وتوقعات لآلام مبرحة ولا تساؤلات عن ماهية الموت ولا حتى ما بعد الموت
وإنما ارتخي بجسمه تماما ولأول مرة منذ أمد ينتابه شعور بالراحة وبدأ جسده بالاستكانه
وذهب الى سريره لينام نوما عميقا لم يجربه من قبل .. ليستيقظ منتفضا على أصوات لم يعهدها في هذا المكان أبدا ..
كانت هدير صوت طلقات الرصاص لا ينقطع والانفجارات تتوالى .. لولا شعوره بالارتجاج الناتج عن هذه الانفجارات لظن بأن هناك من يشاهد فيلما من أفلام الحركة وهذه هي المؤثرات الصوتية المصاحبة لأحداثه ..


وتسلل لأنفه رائحة الدخان مغلفة بالبارود
ولأول مرة في هذا المكان تتشكل انفعالات الدهشة والتساؤل على وجهه لمعرفة ما يحدث بالخارج
تمنى لو أنه يستطيع الصعود الى تلك النافذة العالية ليرى ما خلفها ..
ولمدة ساعتين كاملتين لم تتوقف أصداء تلك المعركة المجهولة والتي لا يعرف أطرافها ..


وأخيرا سكنت الأصوات تماما ولم يعد يسمع سوى بعض أصوات الصياح التي تتردد بكلمات غير مفهومة غالبا ..
فجلس على الأرض مرة أخرى مرتكنا للحائط في مواجهة باب الزنزانة وهو يتسائل عن تلك المفارقة التي تأبي أن تتركه يرحل بسلام .. فعندما جاء اليوم الذي ينتظره يحدث ما يثير فضوله ويخرجه من قوقعته النفسية هكذا ؟



سمع أصواتا تقترب من بابه علم بأنه أخيرا سيرحل وغالبا لن يعلم بما حدث في الخارج ..
ولكن فُتح الباب ليجد وجوها غريبة لم يرها من قبل بين أسوار هذا السجن وأحدهم قال له بتهدج .. (( هيا بسرعة لقد حان الهروب اخرج من هنا ولا تلتفت ورائك ..))
وتركوه وانسلوا من أمامه ..


للحظة ظل جامدا غير مستوعبا لما سمع .. ولكن باب الزنزانة المفتوح وصوت أقدامهم المسرعة والمبتعدة جعلته يشعر بأن الطريق ممهد بالفعل لما قالوا ..
قام منتصبا وسار بهدوء ليخرج من زنزانته لأول مرة منذ أشهر .. ليسير وهو يتلفت ذات اليمين واليسار ليرى آثار معركة دامية هي ما تخلفت عن تلك الأصوات المرعبة التي كان يستمع لها منذ قليل
كان الدخان والدمار والجثث الملقاة لضباط وعساكر السجن من حوله تشير إلى مذبحة قاسية لم يدر أبدا من المتسبب فيها ..
كان المساجين تفتح لهم الزنازين يفرون مسرعون من حوله دون أن يتلفت أحدهم نحو الآخر
وبينما هو يسير طرق اذنيه صوت أنين خافت .. نظر نحوه فإذا به ضابط يحمل على كتفه شارة رتبة المقدم .. ملقى على ظهره والدماء تنزف بقوة من كتفه وبطنه
ومسدسه بجواره على بعد خطوتين ..
زم شفتيه بقوة وذهب ليلتقط هذا المسدس وبكل برود الدنيا وجهه نحو رأس ذلك الضابط الذي نظر نحوه باستعطاف واسترحام شديدين دون أن تخرج منه سوى الآه .. ولكن داس اصبعه على الزناد ليخمد تلك الآه برصاصة مباشرة في الرأس ..
وتنهد بقوة بعد رصاصته تلك واتجه نحو المكتب الذي به ملابسه المدنية ليرتديها بمنتهى الهدوء


ولأول مرة يحاول معرفة الزمن الذي هو فيه نظر نحو تلك النتيجة المعلقة ليعلم بأن اليوم هو الأول من فبراير عام 2011
وأخيرا بدأ التوجه نحو باب السجن ليخرج منه ممسكا المسدس بيمناه
وتنفس بعمق وضاقت عيناه بقوة وقسوة ليخرج منهما شررا يكاد أن يحرق المكان من حوله بأكثر مما هو محترق ..
وأخيرا انطلق مسرعا وكل كيانه وعقله لا يحمل إلا هدفا واحدا


هدف ظن بأن الله مد في عمره فقط لتحقيقه وانتوى بأنه لن يعيش إلا له .


*****


يتبع بإذن الله


الحلقة الثانية
توقيع العضو - ḋเă₥๏ňḋ ĢเŖŁ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُساهمةموضوع: رد: الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد   الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد Emptyالجمعة سبتمبر 02, 2011 1:38 pm

الغرفة 77 الحلقة الثانية

انتهت سمية من إعداد تلك الوجبة السريعة والدافئة وقامت بلفها جيدا داخل تلك الأوراق المعدنية التي تحفظ للطعام رائحته ودرجة حرارته وأخيرا حملتها برفقة آنية وأكواب الشاي البلاستيكية وخرجت إلى الصالة لتمنحها لأخيها محمد قائلة له .. (( تفضل وبالهناء والشفاء ))
غمز لها محمد بعينيه مشاكسا وقائلا .. (( لمن توجهين هذه الجملة .. ))
اضطربت سمية قليلا ودفعته دفعة خفيفة من كتفه وقالت له .. (( وهل يوجد معي سواك أيها الأبله الآن .. ))
ضحك محمد وهو يقول .. (( حسنا أعدك ألا يتذوق حبيب القلب قضمة واحدة من هذا الطعام .. )) وتركها وخرج وهي ترفع يدها كأنما تهم بمناداته ولكن لم تستطع فلزمت الصمت وهي تطمئن نفسها بأنه حتما يشاكسها وفقط .. في حين اندفع محمد إلى أسفل العمارة التي يقيم بها لينضم إلى رفاقه في اللجنة الشعبية المكلفة بحماية هذا الشارع ..
كان الليل قد انتصف وبرودة الجو شديدة في هذا التوقيت وفي هذا الحي المنعزل بمدينة السادس من أكتوبر ولم يكن يصل لآذانهم إلا صوت حفيف الأشجار والأوارق المتطايره مع الهواء
انضموا جميعا حول محمد ليتناول كل منهم نصيبه من الطعام برفقة كوب الشاي الدافيء
وأخيرا جلسو وأعينهم ترصد مداخل ومخارج الشارع في انتباه لم يتربوا يوما عليه
وبدأ بينهم التسامر الذي يمضى به الوقت بينهم ..
قال محمد .. (( أمي ترسل لكم السلام وتقول لكم بالهناء والشفاء ))..
كلهم نطقوا بعبارات الشكر والثناء عليها إلا يوسف الذي قضم قضمة من طعامه ثم نظر نحوه نظرة خاصة كان ينتظرها محمد بمنتهى اللهفة ولم يتمالك كل منهما نفسه من الابتسام الذي تحول الى قهقهة مكتومة من محمد ونظرة خجلة الى الأرض من يوسف
والعجيب أن من يرى هذا المشهد لا يمكنه بحال من الأحوال أن يصدق بأن هذين هما نفس الشخصين اللذين وقفا موقفا ما كان ليؤدي الى ما نراه بأي حال من الأحوال منذ شهرين ..
*****
رغم أن محمد ولد وتربى بأحياء القاهرة إلا أن الدم القناوي الصعيدي الحار ما زال يجري بعروقه حاملا كل الصفات الوراثية الأصيلة لقلب الصعيد النابض ..
لذا لم يكن غريبا عليه أن يكون على قدر المسئولية الكبرى تجاه أمه وأخته بعد وفاة والده رغم أنه الأصغر سنا ..
فبدأ بالعمل مدرسا للغة الألمانية رغم أنه ما زال في الفرقة النهائية بكليته وما كان يأتي من المعاش المقرر للأسرة بعد وفاة والده كان يصر على أنه مصروف أمه وأخته وفقط
وكذلك راتب سمية لم يكن إلا لها .. أما الإنفاق على المنزل والطعام والشراب وفواتير المياة والكهرباء والتليفون بجوار مصاريفه الشخصية فهي على عاتقه ولن يتنازل عن ذلك أبدا ..
وقد كان على قدرها بالفعل ..
رغم المشقة التي كان يواجهها إلا أن الاحساس بأنه قد أدي ما عليه .. والشعور بالنجاح في آداء واجبه نحو أسرته كان يعطيه راحة نفسية ونشوة خاصة لا مثيل لهما ويجعلانه ينام قرير العين كل ليلة
حتى رأي ذلك المشهد ...
كان مصعد العمارة قد تعطل فقرر أن يصعد مسرعا على درجات السلم وقبل شقته بدورين سمع صوتا من المستحيل أن تخطئه أذنه ..
إنه صوت سمية وهي تتحاور في خفوت شديد ..
ورغم أنه يكره التلصص والتجسس إلا أنه لم يستطع منع نفسه من السكون التام وإنصات السمع تماما ليعرف ماذا تقول ومع من تتحاور ..
فإذا بها تقول .. (( نحن لا نريد أن نشعره بالنقص والعجز ونتركه في إحساسه بأنه رجل البيت الذي ينفق علينا ولكن حتما سيأتي يوم ليكتشف فيه الحقيقة .. ))
واذا بمحاورها يوسف ذلك الشاب الذي يقيم بشقته في هذا الطابق مع أبويه القعيدين يرد عليها قائلا ..
.. (( خيرا ما فعلتم .. ))

وهنا لم يتحمل محمد أن يتوارى بأكثر من ذلك ولهذا ظهر أمامهما بصوت هادر قائلا ..
(( ولماذا التهامس على درجات السلم والتعرض للقيل والقال .. فشقته واسعة وتكفي للإختباء بها معه .. ))
شهقت سمة وهي تضع كفها فوق فمها مذهولة .. في حين ارتبك يوسف وقال ..
.. (( لا يا محمد لقد فهمت الأمر على غير حقيقته .. ))
نظر محمد نحوه باحتقار شديد ولم يرد عليه بجملة واحدة وأمسك بيد أخته وقال لها تعالي معي بدلا من الفضائح العلنية ..
رغم أن سمية هي الأكبر إلا أن شعورها بالإثم كان يجعلها ترتعد وهي مندفعة خلفه وقبضته القوية ممسكة كفها تكاد أن تعتصرها ..
وما إن دفعها داخل شقتهم وأغلق الباب حتى هتف بها قائلا ..
.. (( والآن أريد منك أي تفسير أو مبرر لما رأيت وسمعت ..))
خرجت أمه في هذه اللحظة على اثر صوته العالي وقالت له .. (( ماذا هناك يا محمد يا ولدي ؟؟ .. ))
أشار محمد نحو سمية ونبرة صوته آخذه في التصاعد قائلا ..
.. (( ها هي الآنسة المحترمة فلتخبرنا سويا فأنا نفسي لا أدري .. ))
قالت سمية مرتعدة .. (( لقد رآني وأنا أدفع قيمة القسط ليوسف .. ))
وقف محمد مشدوها لسماعه كلمة قيمة القسط وازدادت دهشته عندنا وجد أمه تربت على كتفه وتقول له بحنان .. (( يا ولدي لا تظلم أختك فأنا السبب في كل ذلك .. ))
وجلس محمد عاجزا عن النطق ليستمع الى ما يجعل الشعور بالعجز الكامل يكتنفه
فمنذ خمسة أشهر صعد إليهم يوسف في غيبته بسبب انشغاله بعمله الذي يلتهم جل وقته ليخبرهم بأن الشقة التي يقيمون بها لم يكن السيد الوالد قد انتهى من دفع أقساطها قبل وفاته ..
وعلى عكس ما كانوا يعتقدون بأن الشقة قد تم شرائها مع دفع قيمتها كاملة فقد كان يخفي عنهم هذا الأمر ويدفع أقساطها في الخفاء مع مراعاة ألا يشعرهم بالنقص في أي شأن من شئون حياتهم
وأمام اصرار محمد على الانفاق الكامل والشعور بالرجولة والمسئولية كان لزاما عليهم أن يخفوا عنه هذا الأمر الذي تفاجئو به
وحينما صعد محمد كانت سمية تؤكد على يوسف بألا يشعر أخيها ولا يخبره بأي شيء حتى لا يشعر بالعجز أو النقص ..
وقبل أن يرد عليهم محمد اذا بصوت جرس الباب في الارتفاع ذهبت سمية لترى من الطارق فإذا به يوسف
نظرت نحوه وهي غير قادرة على النطق ولكنه دخل كأنما هو في بيته لدي رؤيته لمحمد وجلس أمامه وبدون أي مقدمات قال له ..
.. (( أستاذ محمد .. انا قادم لخطبة أختك سمية فهل توافق ؟؟ ))
كان اليوم العالمي للمفاجئات بالنسبة لمحمد ووسط ارتباكه وتبعثر مشاعره وشتاته النفسي
كان الرد التلقائي وقتها منه أن قال .. (( وبكم قسط من أقساط الشقة سوف تشتريها إن شاء الله ؟ ))
كان رد يوسف هادئا وهو يقول له .. (( أعلم مدى انفعالك الآن لذا أترك لك الأمر لتفكر فيه حين هدوئك وأنتظر ردك .. ))
وقام منصرفا بنفس هدوئه تاركا الثلاثة في صمت كان هو الشعار الرئيسي لدهشتهم المتنوعة على حسب مشاعر كل منهم ..
******
هل هو العناد الغبي المستحكم الذي تمكن منه ؟
هل كان ذلك هو الرد المناسب ليشعر بالفعل أنه رجل البيت وأن كلمته هي التي ستسود ؟
هل كان رد الفعل النفسي لكي يشعر بأنه الأعلى والأكثر تفوقا وأنه هو من يمنح الرضا ؟
ربما يكون كل هذه الأسباب مجتمعة كانت السبب الرئيسي في الرفض التام
رغم أن العقل والمنطق كان يدفعه نحو النقيض ..
وأصبح يوسف هذا هو غريمة لا يقبل رؤيته أو سماع صوته
فهو يشعره بأنه قد سلبه أسرته التي كان ينعم بالدفء والسيادة وسطهم
واذا بمن يجعله يشعر بالصغار التام مقارنة به
حتى توالت الأحداث التي شهدتها مصر كلها مع اندلاع الثورة الشبابية في الخامس والعشرين من يناير
وما تبعها من أحداث جسام وأعمال سلب ونهب طالت كل الأحياء الراقية
وتكونت على اثرها اللجان الشعبية لتحل محل الشرطة التي اختفت في ظروف غامضة
وبدأ يحدث تلاحم جديد بين أهالي الحي الواحد .. لأول مرة تصبح الوجوه الشبحية التي تعتاد على رؤيتها صباحا اثناء مرورك بالشارع أو عند تعاملك السريع بأحد المتاجر فيه
لأول مرة تصبح وجوها أليفة تفيض بالبشر وتبعث بالطمأنينة في النفوس
لأول مرة يعلم محمد بما يدور في عمارة علاء رغم أن الفاصل بينهما أكثر من خمس عمارات في حين انه في السابق غالبا لم يكن يعلم ما هي الظروف الإجتماعية للشقة المجاورة له
اكتشف شباب الحي بمجالساتهم الليلية والحوارات الباسمة خفيفة الظل كعادة الشعب المصري في كل أحوالة مهما كانت حالكة أو قاتمة ..
اكتشفوا دفئا خاصا في الحوار يفتقدوه بشدة في كل برامج المحاورة على شبكة الانترنت التي يقضون عليها جل وقتهم في السابق
أصبح يوسف مهندس الكمبيوتر مع محمد الطالب مع الحاج حنفي البواب مع الدكتور توفيق يتجالسون سويا في توحد لا ذكر فيه لأي فوارق طبقية أو ثقافية ..
روح جديدة وألفة عجيبة بدأت تجمع الجميع نحو هدف واحد وألم وأمل واحد
هو أن تعود الحياة الجديدة والحقيقية لمصر بأكملها ويعود الهدوء والأمن والاستقرار
فرغم اختلافهم واختلاف مشاربهم وآرائهم في الأحداث الجارية
منهم من يرى بأن الاستقرار السابق أفضل ألف مرة مهما كانت به من مظالم
وآخر يقسم بأن البلد ستعاني مخاضا صعبا ولكن ستكون ولادة جديدة لآفاق رحبة لم نتنسم عبقها من قبل
وقتها سندرك في أي مقبرة كنا ندفن أنفسنا أحياء رغم أننا نستحق الأفضل
ومنهم كذلك من يرى وجوب التغيير ولكن ليس بهذا الشكل
فرغم كل هذه الاختلافات إلا انه ولأول مرة يكون اختلافا هادئا بلا غوغائية وأصوات مرتفعة يكون الغلبة فيها لأكثرهم قوة في أحباله الصوتية
ورغم كل ذلك إلا أنهم كان لديهم واجب مقدس توحدوا عليه
وهو الدفاع عن ذلك الشارع ضد أي عمليات سلب ونهب وبلطجة محتملة
ولم يعكر صفو ذلك إلا النفور الظاهر من محمد تجاه يوسف
كل محاولات التودد التي أظهرها يوسف نحوه لم تجدي نفعا
ورغم أنهما كان يسهران سويا حتى مشرق الشمس وعودة الحياة الطبيعية بالحي مع استمرار نوبة جديدة نهارية من اللجان الشعبية مكونة من آخرين
إلا أن الحديث بينهما كان منعدما تماما واذا التقت أعينهما فسريعا ما يشيح محمد بوجهه بعيدا عنه
حتى ظهر ذلك الرجل ..
كانت الساعة العاشرة مساءً
ما زالت الأضواء ظاهرة خلف أغلب شبابيك العقارات بالشارع
وما زالت أصوات البرامج والمسلسلات عبر أجهزة التلفاز تعطي احساسا بالحياة في كل مكان
كان يسير ببطء وهدوء شديدين واضعا يدية في جيبي معطفه ينشد بذلك الدفء
وعند بداية الشارع وجد ما يشبه المتاريس البدائية من آنية البترول الكبيرة وقطع الخشب الأفقية فوقها وإذا بشاب يستوقفه وبيده هراوة كبيرة ورأسه ملفوفة بقطع شاش أبيض عريض ظن أنه مصاب ولم يتفهم أبدا أن هذه تعد شارة مميزة للجان الشعبية في هذه المنطقة كان ذلك الشاب هو يوسف ضمن الفرقة المكلفة بحراسة هذا المدخل من الشارع .. استوقفه وقال له :
.. (( من أنت وإلى أين ذاهب ؟ .. ))
توقف الرجل وعيناه تحملان تساؤلا كبيرا عما يعني هذا ..
ولكن لم يطل تساؤله فأشاح بجسمه بعيدا عن يوسف وانطلق محاولا تفاديه
ولكن ظهر له خمسة شبان بيد كل منهم هراوة مشابهة لتلك التي بيد يوسف ونفس الشارة المميزة ملفوفة حول رؤوسهم وقال له أحدهم ..
.. (( هل استمعت لسؤاله أم أصابك الصمم ؟؟ .. ))
كانت الدهشة الحقيقية تلم بالرجل ولكن أقنع نفسه بأن هؤلاء بعض محترفي الاجرام يريدون ما معه من أموال .. كان مبعث دهشته أنه يعلم بأن هذه المنطقة خالية منهم تماما
ولهذا قال بصوت هاديء وعميق .. (( ليست معي نقود ولا ساعة ولا أي شيء يفيدكم .. دعوني أذهب لشقتي فالجو بارد وأعدكم بعدم إثارة أي متاعب لكم .. ))
قال له يوسف . . (( لسنا لصوصا يا سيد بل نحن من ندافع عن الشارع منهم لذا أريد بطاقة هويتك وعنوانك بالتفصيل لو سمحت ؟ ))
ازادادت دهشة الرجل أكثر متسائلا .. ما الذي يحدث بالضبط ؟ منذ متى يخرج الشباب للدفاع عن الشوارع ويتحققون من الهويات بمثل هذا الشكل ؟
ولكن لأنه اعتاد على كتمان تساؤلاته التي لن تجدي قال لهم .. (( فقدت هويتي وأنا مقيم بالعقار رقم 18 الطابق الخامس به ))
ضحك يوسف وقال له .. (( أنت ينطبق عليك المثل الشعبي القائل .. سيء الحظ من يعضه الكلب وسط مظاهرة مليونية .. فأنا أقيم بهذا العقار وأعلم كل من به ولم أرك من قبل فيه ..))
في حركة سريعة واحترافية اندفعت قبضة الرجل اليمنى إلى وجه يوسف وانتزعت يسراه تلك الهراوة منه ليقذف به في وجه بقية الشباب الذين حاولوا تفاديها بينما انطلق هو مسرعا كالقذيفة الى داخل الشارع
علا صوت الشباب منادين في صوت واحد (( حرااااااامي ))
وهم خلفه بهراواتهم الضخمة وانحني محمد ليلتقط ما رآه من حجاره ليقذفه بها
اصابت احداها كتفه ولكن لم توقفه وكأنما لم يشعر بها وفي أقل من دقيقة واحدة كان الرجل قد اندفع الى داخل العقار المنشود الذي تقيم به أسرة محمد وبالطبع شقة يوسف في حين تجمعت كل الفرق المخصصة لحراسة الشارع من مدخليه ووسطه ..
كان الموقف عجيبا .. لو كان لصا ما الذي يجعله مصرا هكذا على الذهاب لبغيته أمام أعينهم مطاردا منهم
فما علموه واتفقوا عليه بأن اللصوص جبناء مجرد رؤيتهم لجمع مهما كانوا أقل منهم يتركون المكان وينصرفون لآخر هاديء تماما ..
ولو كان من أهل المكان فلما يفعل كل ذلك ؟ ! .. وكيف لم يرونه من قبل ؟!
كانت اللهفة واللوعة من نصيب يوسف ومحمد لأن الخطر يتهددهما الآن بشكل مباشر
لذا نظر كل منهما نحو الآخر وبدون اتفاق استقل محمد وشابين معه المصعد واندفع يوسف برفقة الآخرين على درجات السلم وتم تقسيم بقية الفرق بحيث يظل الشارع تحت ظل الحماية لأي دخيل آخر قادم ..
ولدهشة الجميع
لم يكن هناك أثر للرجل ولم يسمعوا حتى صوت دبيب قدمية
صعدا إلى السطح ولم يكن هناك
كل الشقق كانت مغلقة ولا يوجد أي أثر للعنف على احد أبوابها
ما معني ذلك ؟
هذا الرجل بالفعل حتما معه مفتاح إحدى تلك الشقق أو أن له رفاق بها
وفي كلتا الحالتين كان الموقف يثير الكثير من التساؤل كيف لم يروه من قبل ولا يعلمون به ؟؟
أخذ محمد ويوسف يفرزان الشقق ليتوقعا سويا بأيهما قد يختفي الرجل
ولدهشتهما لأول مرة يكتشفان بأن هناك الكثير من الشقق لا يعلمان عنها شيئا
قال محمد ليوسف مؤنبا .. (( إن كان لي العذر في عدم معرفة كل السكان فلا عذر لك لأن حتما لك تعامل مباشر معهم جميعا .. ))
قال يوسف مدافعا عن نفسه .. (( أغلبهم قام بالشراء والدفع مقدما عبر مكتب المقاولات الذي قام بالبناء ))
قال محمد .. (( حينما زرت بلدي في قنا العام الماضي وجدت أن أهل القرية يعرفون بعضهم البعض بكامل العدد .. ونحن هنا في عمارة واحدة ولا نعلم من بها ؟!! ))
قال يوسف في مرارة .. (( هذه إحدى لعنات العصر الحديث .. ))
وبينما هما يتحاوران اذا بصوت طلق ناري من الطابق الذي يعلوهما .. وقد كان الخامس بالفعل كما أخبرهم عندما استوقفوه ..
ولكن إن كان هذا محل إقامته فما الداعي للطلق الناري اندفع الجمع مسرعا للطابق الخامس والذي لدهشتهم كان به الشقة التي يقيم بها محمد الذي ذهب مباشرة ليرى أمه وأخته ليجدهما في حالة لا توصف من الهلع فتنهد مرتاحا ثم أخبرهما بأن تلزما الصمت .. وخرج ليتسائل معهم ترى من أين كان هذا الطلق الناري ؟؟
الطابق به ثلاث شقق اثنتنان منهما متقابلتين في الممر الطويل والثالثة في المنتصف
قال محمد .. الشقة المقابلة لنا يقيم بها ضابط الشرطة المقدم حسن قد يكون هو من أطلق النار على الدخيل .. وعلى الفور كانت الطرقات على باب المقدم علي ترتفع ليرد عليه ولده الصغير من الداخل بصوت مرتجف ليسأل عن الطارق سأله يوسف هل حدث أي أمر عندكم ؟
وكانت الإجابة هي النفي .. وبهذا لم يتبقي الا الشقة الثالثة .. التي انهالوا عليها بالطرقات ولا مجيب
فما كان منهم إلا أن اقتحموا الباب ليحطموه .. ليجدوا الشقة خاوية ومظلمة وحجرة واحدة فقط التي بها اضاءة تقدموا بحذر نحوها وهم يعلمون بأن من بالداخل حتما مسلح بسلاح ناري
كانت هناك روح جديدة تنبعث داخل الشباب .. فرغم علمهم التام بتسلح الرجل وأنهم عزل وضعاف مقارنة به إلا أنهم تناسوا تماما هذا الفارق في القوة والتسليح .. ربما لو قصصت هذا الموقف على أحدهم لقال لك من الغباء مهاجمة الرجل .. ولكن في أرض الواقع والمعركة لا يعلمون من أين واتتهم كل تلك الشجاعة والجرأة والإقدام ..
وحفزهم أكثر من ذلك الصمت الذي يلف المكان للتقدم ليجدو الحجرة أيضا خاوية وهناك خزانة كبيرة مفتوحة على مصراعها وأثر الطلق الناري ظاهر على قفلها ..
ومن العجيب أن الخزانة كان بها مبلغ كبير من المال من الواضح أن الدخيل لم يقترب له وإنما أخذ شيئا أثمن وأهم بالنسبة له وانطلق ..
كان شباك الحجرة مفتوحا أطل منه يوسف بوجه ليصرخ قائلا لقد دخل عندكم يا محمد
انطلق الجميع بسرعة الى شقة محمد ليجدوا مشهدا كثيرا ما تكرر في كل الأفلام والمسلسلات وربما المسرحيات كذلك ..
الرجل الغامض الهاديء والبارد .. يطوق رقبة سمية بذراعة ويصوب المسدس الى رأسها مباشرة
ويهدد ويتوعد ..
قال له محمد برجاء .. (( سأعطيك كل ما تأمر به ولكن أرجوك لا تمسها بسوء ))
بصوته الهاديء الرصين قال ..
.. (( أريد الخروج وفقط .. ))
علا صوت يوسف قائلا .. (( حسنا فلتأخذني رهينة بدلا منها حتى تخرج بسلام من هذا الشارع .. ))
نظر محمد نحو يوسف مندهشا في حين ظل الرجل محدقا نحوه بلا أي انفعال وأخيرا قال له ..
لك هذا ..
وحدث التبادل المنشود .. لينطلق الرجل مصطحبا معه يوسف أمام عجز الجميع الفعلي عن مواجهته خشية المساس بحياة يوسف ..
وبعد ربع الساعة عاد يوسف ليلقاه محمد مصافحا وممتنا وهو ويقول له .. (( يوسف أنت .. ))
وضع يوسف يده على فم محمد وقال له ..
.. (( ليس هذا مكان ولا زمان كلامك هذا .. فلنبحث أولا عن أصحاب هذه الشقة ونرى ما الذي فقدته ونبلغ الجيش بما حدث .. وبعد أن تستقر الأمور .. سيكون الوقت مناسبا لكل شيء .. ))
احتضنه محمد بقوة وهو يقول له .. (( فقط أقول لك شكرا .. ))
كان هذا يحدث بينهما في حين أن الرجل كان ينطلق مسرعا وهو عاقد الحاجبين بقوة ويتسائل عن سر كل تلك التغيرات الانقلابية التي حدثت في الأشهر التي قضاها بالسجن منتظرا حكم الإعدام
وأخذ يفكر في خطوته التالية وهو يتحسس صيده الثمين الذي حصل عليه ويستقر بجيبه بمنتهى الأمان

انتظروا الحلقة الثالثة Neutral
توقيع العضو - ḋเă₥๏ňḋ ĢเŖŁ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُساهمةموضوع: رد: الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد   الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد Emptyالجمعة سبتمبر 02, 2011 1:40 pm

الغرفة 77 الحلقة الثالثة

ضم كريم ياقة معطفه الكثيف ليستمد بعض الدفء منه وسط هذا البرد وهو يستند بظهره إلى أحد أعمدة الإنارة بوسط ميدان التحرير .. كان يرتجف ومشاعره كلها مبعثرة بشكل لم يعهده أو يجربه من قبل ..
كان الوقت قد انتصف منه الليل .. ولم تكن ليلة عادية أبدا .. فالمشهد لو رآه في أحد أفلام الحركة لحكم عليه بالمبالغة .. والصورة جديرة بأن يتم نقشها في لوحة أسطورية تحكي عن مرحلة تاريخية غير مسبوقة ..
في الليلة الماضية التي قضاها بالميدان كان هذا الوقت إما للسمر أو الراحة ..
ولكن هذه الليلة كانت ليلة النيران المشتعلة عليهم من كل صوب ..
فمنذ العصر وبعد دخول قوافل البعير والخيول عليهم تحمل عددا لا بأس به من محترفي الإجرام لتفريق الجمع المتوحد بالميدان منذ جمعة الغضب .. وعلى مداخل الميدان المتعددة كانت فرق الهجوم بالحجارة المقذوفة عليهم لا تكل ولا تمل .. بل يتم تغيريهم في مناوبات متصلة ورجال الميدان في مواجهة مستمرة معهم بلا راحة ..
ومن أعلى العمارات كانت قذائف اللهب تنهمر عليهم كأنما هي الشهب لتهبط عليهم في أمل أن تحرق فيهم جذوة المقاومة والصمود وربما الأمل في نجاح هذه الثورة
وأخيرا مع دخول الليل بدأت طلقات الرصاص مجهولة المصدر تحصد الأروح بعناية وانتقاء من بينهم
برودة الجو مع الخوف الشديد الذي اكتنف كريم جعل ارتعادته لا تتوقف أبدا
وأخيرا بعد إغلاق هاتفه وصمته التام لمدة عشر دقائق مع ثورة بركانيه تعتمل بداخله
قام منتصبا وعيناه تحملان تصميما جديدا عليه
وبريقا يشق طريقه إليهما لينير له دربه الجديد
واندفع الى مقدمة الصفوف ليحمل الحجارة ويقذفها ليساعد في صد الهجوم التتاري وصوته يهدر قائلا
.. (( الله أكبر .. الله أكبر .. ))
ولأن صيحته كانت تخرج من أعماق قلبه .. فقد اخترق صداها الكثير من القلوب ليشحذ فيهم الهمة ويقتل فيهم التردد أو الخوف
وبدأت الأعداد تزحف من المؤخرة للمشاركة في قوة المقدمة وهتافه لا ينقطع ..
وتقدم أحدهم ووقف بجواره ورفع جواله الى أذنه وهتف بكلمة واحدة وهو يشير نحوه ..
وبعدها بدقيقتين انطلقت رصاصة لتستقر في منتصف الرأس .
*****
ولأن عهدنا بهذه الثورة أنها قلبت كل الموازين وأخرجت العملاق الساكن والراقد في قلوب الكثير من المصريين .. لن يكون جديدا ذكر أن صورة كريم هذه مغايرة تماما لما كان عليه في الأيام السابقة
كريم خريج إحدى الأكاديميات الخاصة التي أهلته ليعمل في مجاله الذي يعشقه .. وهو تصميم مواقع الانترنت وبرمجتها بشكل كامل ..
يتميز بشخصيته المرحة خفيفة الظل وتلقائيته وبساطته المعهودة .. يعطي جل وقته لعمله مع مدونته التي لا تحمل سوى ما يعشق من مواقف مرحة سواء مكتوبة أو مرئية أو مسموعة وأغان خفيفة عربية وأجنبية هي ما تعبر عن ذوقه العام ..
وبالطبع كان التفاعل معها وبها كثيفا وخاصة مع الجنس اللطيف ..
ومع خفة ظله المعهودة كانت معارفة وصداقاته معهن كثيفة ومتنوعة وكم خاض من تجارب عاطفية متنوعة جعلته أخيرا يزهد الجميع ويكتفي فقط بالمشاكسة والمسامرة ...
ومن المؤكد أنه لم يكن متابعا لأي حدث سياسي ولا يهتم به بل كان نادرا ما يتابع بعض الأخبار عبر بعض المواقع التي يعمل على صيانتها ..
فهو الابن المدلل والوحيد لوالدين من ميسوري الحال .. لديه السيارة الفارهة .. وطلباته كلها مجابة
لا ينقصه شيء .. ومن أهم الأشياء التي تربى عليها ..
ألا ينشغل ولا ينجذب لأصحاب اللحي أو من يرطنون بكلمات تتميز بمصطلحاتها الغامضة مثل الأمبريالية واليسار التقدمي وطبقة المغيبين وما إلى ذلك ..
لأن مصير كل هؤلاء حتما خلف الأسوار ..
فما الذي يجبره على مجابهة كل تلك المصاعب والمشاق وهو لا ينقصه شيء ؟
حتى أجبرته الظروف على دخول تلك المدونة ..
شاب أراد إنشاء موقع اليكتروني جديد وأثناء الاتفاق معه على شكل التصميم والإمكانات المتاحة بالموقع
طلب منه الشاب أن يضع ضمن الشكل الرئيسي في مقدمة الموقع تصميما مشابها لذلك الموجود بتلك المدونة ..
للوهلة الأولى ظن كريم بأنه أمرا تافها وأخبره بأنه سينفذه له بما يريد ..
كانت المدونة اسمها الخنساء مكتوبة بشكل جديد يملأ فراغا كبيرا من أعلى الصفحة وهناك مسافة بين حرفي النون والسين وبينهما صورة صغيرة دخل دائرة اطارها يشبه إطار الكرة الأرضية وهذه الصورة الصغيرة متغيرة بشكل مستمر ودائم وكل صورة مرتبطة بحدث إخباري منتقى بعناية من المواقع الإخبارية المتنوعة والمتخصصة ..
ظن كريم بأن الأمر يسير وهي عدة أخبار يتم وضعها في أول اليوم ثم تغييرها وتحديثها بعد عدد معين من الساعات ولكن ما أدهشة بأن الصور والأخبار المتعلقة بها لم تكن تتكرر أبدا فالحدث يعرض مرة واحدة طوال اليوم ..
ظل كريم يبحث ويفكر في الطريقة التي يمكن بها فعل ذلك وأعجزه الأمر فلجأ لأيسر الطرق الاتصال بصاحبة المدونة وسؤالها عن الطريقة أو الكود الذي نفذت به الفكرة ..
ولكن لم يأته الرد ..
أخذ يتجول بالمدونة ليتفاعل معها بالردود لكي يلفت انتباه صاحبهتا اليه وبعدها يطالبها بالرد على بريده
وبينما هو يتجول إذا به لأول مرة يرى موضوعا قديما بها عن شاب يدعى خالد سعيد
كانت صورته الباسمة الأنيقة واللامعة في صدر الموضوع توحي بأنه شاب يشابهه في كل شيء
ولكن هاله ما قرأه عنه
وارتجف بدنه قوة وانخلع قلبه عندما رأى صورته الجديدة في آخر الموضوع
كانت صورة تناقض الأولى في كل شيء
وجه مهشم ومشوه بشكل بشع يطل الموت عليه بأبشع آماراته
رغما عنه أدار المؤشر لأعلى الصفحة ليقارن بينها وبين الأخيرة وهو غير مصدق بأن صاحب الصورتين هو شخص واحد
ولأول مرة يدرك كريم بمعنى الموت ..
ولأول مرة يخشاه بصدق .. فهو لم ييتفكر فيه من قبل .. بل ربما نسى بأن هذا المصير ينتظر الجميع ..
وأخذ كريم يقارن بينه وبين هذا الشاب وتخيل نفسه في موضعه
وكانت هذه هي المقدمة لأن يرتبط بهذه المدونة بشكل خاص ويبدأ في التفاعل الحقيقي بكل مشاعره مع كل إدراجاتها وقد تناسى تماما هدفه من الدخول إليها ..
وبعد أن التهم كل المواضيع القديمة بها والتي كانت تتنوع ما بين الدينية والإخبارية مع بعض السياسة الخفيفة ..
أصبحت قرائته الصباحية لكل موضوع جديد تشرق معه شمس اليوم في هذه المدونة .. هي جلسة أهم من إفطاره وكوب الشاي الساخن المقدس لديه قبل بدء عمله
وأصبح اسم الخنساء بالنسبة اليه شيئا جذابا يضفي الكثير على حياته ..
اسم بدأ يسلخه من حياته الى حياة جديدة
بعد يأسه من ردها عليه في أي موضوع أصبح فقط يتخيل تلك الخنساء صاحبة المدونة الغامضة والخفية التي تضع المواضع وعبر أكثر من مائتي موضوع
ردت مرة واحدة لتعتذر بجملة مقتضبة عن خطأ إملائي غيَّر معنى الشطر التي كانت به ونبهها إليه أحد القراء في رده عليها ..
هنا علم بأنها تتابع حتما كل الردود على مواضيعها وإدراجاتها ولكن تترفع عن الرد على الجميع ..
ولأنه لم يعهد هذه النوعية من قبل .. ولأن الممنوع مرغوب والبعيد يصبح هو المبتغى دوما
ولأنه لم يفشل يوما في أن يلفت انتباه أي فتاة من قبل ..
قرر أن يخوض معركته معها وهو يقسم بينه وبين نفسه أنه حتما سيصل معها إلى أن ترد عليه ردا خاصا في يوم ما ..
بعد متابعته الدائمة لها علم أنها تهدف إلى التدين ونشره والدعوة اليه ..
لذا وبعد أن علم بمتابعتها لكل الردود بدقة ..
جاء رده على موضوع جديد لها كتبته بعنوان الدقائق الغالية .. كان موضوعا عن ركعتين فقط في جوف الليل وفضلهما وكيف أن الدعاء فيهما يسمى بسهام الليل وما له من أثر فعّال ..
رغم تأثره بالموضوع فعلا إلا أنه كتب ردا مزج فيه هذا التأثر مع رغبته في جذبها للرد عليه ..
كتب يقول (( هذا عمن يحافظ على صلواته .. فماذا عمن لم يركعها من قبل .. كيف السبيل إلى ذلك ؟ ))
وجاء الصباح التالي ليحمل له مفاجأة .. كان تاركا صفحة الموضوع مفتوحة منذ الأمس وعند الصباح قام فقط بإعادة تنشيط الصفحة ليرى الردود الجديدة على الموضوع وهو يتمنى أن يجد لها ردا
ولم يجد ..
شعر بخيبة أمل فقام بالذهاب للرئيسية ليرى موضوع اليوم الجديد ..
وهنا وجد الرد .. فقد كان الموضوع الجديد عن كيفية الالتزام بالصلاة والمواظبة عليها والمحفزات لذلك وما هي المثبطات وكيفية التغلب عليها ..
كانت الفرحة تكتنف كل جوانح كريم وتتمكن منه ..
فقد شعر بتفاعلها معه وقرأ الموضوع كأنما هو حوار بينهما ..
وكانت البداية لأن يلتزم بالصلاة فعلا ..
وأخيرا عرف كيف السبيل اليها ..
كل ثلاثة أيام يضع تساؤلا ليجد الرد في موضوع كامل ..
كان كريم يندهش بقوة للتغير الذي طرأ عليه ..
كم من الفتيات يطاردنه وقائمة برامج التحاور معه مليئة بمئات منهن ورأى صور الكثيرات وأقلهن جمالا يقال عنها فاتنة والله أعلم بهذه الخنساء وكيف تكون ..
فكيف زهد فيهن بهذا الشكل ..
وأصبحت تلك المحاورة الرمزية هي النشوة الحقيقة التي يتجرعها كل صباح ..
وأخيرا اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير
لتتوقف المحاورة ولتصبح المدونة فقط نقل حي وتفاعل موسع لأحداث الثورة انقطعت خدمة الانترنت ليتوقف كل ذلك ولتعود مرة أخرى صباح الأول من فبراير وعادت المدونة حاملة معها كل الأحداث الحية لحظة بلحظة وردا على الشبهات المنطلقة عنها
ووجد أن التفاعل معها لن يكون إلا بالحديث عن هذه الثورة .. ووجد موضوعا لها يقول ..
(( رجال التحرير في الميدان )) كانت تتحدث فيه عن أن القابعون في ذلك الميدان هو الرجال حقا
وأن من لم يقم بزيارة الميدان يوما في هذه الأحداث مع قدرته على ذلك فهو لا يستحق أن يتنسم عبير الحرية في هذا الوطن ..
وجد كريم بأن خير رد عليها في هذا التوقيت أن يذهب لذلك الميدان وعبر جهازه الخاص والمخصص لإستعراض شبكة الانترنت والمشابه للجوال .. هناك يمكنه بث صورا وأخبارا في ردوده اليها
وحتما ستتفاعل معه ..
جلس أولا يتابع أخبار الميدان .. وجد أنه به مئات الآلاف والكثيرون يذهبون ويعودون منه بلا أي عوائق
وكثير من ضيوف البرامج الحوارية يتحدثون عن أنهم عادوا توا من هناك والوضع كذا وكذا
بل إن رئيس الوزارء الفريق أحمد شفيق صرح بأن من يريد مغادرة الميدان لن يتم ملاحقته أمنيا أبدا بل له كل الأمن والأمان ..
اذا هي تجربة سهلة ولكن ستمثل فارقا كبيرا مع معركته الكبرى والخاصة مع الخنساء ..
وذهب الى الميدان ..
ليبدأ التحول الحقيقي والكبير في حياته ..
كان يظن بأن هؤلاء الماكثون بالميدان هم حتما من يعانون البطالة و لديهم الوقت لذلك ..
ولكن ..
وجد كل الفئات والأعمار والاتجاهات متواجدة به ..
صاحب الأعمال التي عطلها وجاء
الطالب والعامل والموظف والمدير والبواب وكل الوظائف متواجدة ومتجاوره
بل وجد كل التيارات التي سمع عنها بمدونة الخنساء
الإسلاميون واليساريون والليبراليون والنصاري في مشهد متفرد ونادر
متجاورون ومتحدون ومتحابون
وجد مشاعر ملائكية بين الجميع .. لم يعهدها أو يسمع عنها من قبل .. ولأول مرة يجد أن بضع تمرات يجتمع عليها الجميع وتكفيهم كمؤنة ولغذاء ربما يوم كامل ..
وكما تقول الحكمة الشهيرة .. ليس من راء كمن سمع ..
فقد كان تفاعله مع مواضيع الخنساء من قبل تفاعلا شاحبا ..
صحيح أنها غيرت الكثير من أفكاره وقومت بعض سلوكه ..
ولكن في الميدان تغيرت كل مشاعره وربما كل حياته .. لأول مرة يشعر بأن الحياة يجب أن يكون لها هدف واضح لكي تشعر بقيمتها ..
لأول مرة يعلم بأن المتعة الحقيقية ليست في نيل الشهوات
وإنما ربما أقصاها في مجابهة المشاق و المصاعب
وبعد أن كان هدفه الحقيقي من هذه الزيارة هو أن يحاور الخنساء شعر بتفاهته وأصبح هدفه الواقعي هو أن ينهل من هذه الخيرات والرحمات المتدفقة بميدان التحرير ..
ولأول مرة يبيت هكذا في العراء بين شباب التحرير
ليأتي اليوم الثاني بتطور كبير ونوعي .. وسميت أحداثه بمعركة الجمل
كان طوال اليوم يذهب بعيدا عن مقدمة الأحداث خائفا ومتوجسا من أي ضرر قد يناله ..
طوال اليوم يجد المصابون من حوله يمرون في موجات من الأمام للخلف وهم غارقين في دمائهم
ولكن سريعا تعود هذه الموجات وسط كل ضمادتها الى الأمام مرة أخرى
كانت حياة جديدة تبث من حوله في هؤلاء البشر الذين ظن في البداية بأنهم ما جلسوا هنا إلا لكامل طمأنينتهم بانتفاء الضرر
وأن كل معاناتهم لا تتعدي الجوع والبرد
وأخيرا أتته مكالمة والده التي مزقت نياط قلبه والتي ترجوه بأن يعود إليهم سالما فهو وحيدهم وهو الهدف الوحيد الذي يعيشون لأجله وأن أي ضرر يمسه إنما فيه مواتهم التام
فتح كريم جهازه وذهب مباشرة لمدونة الخنساء وكتب ردا على آخر موضوع لها ليقول لها فيه ..
.. (( الجو بارد ومخيف والموت يقتنص من حولي في ميدان التحرير وأبي وأمي يتربص بهم الموت خوفا علي وأنا وحيدهم .. ماذا أفعل ؟؟ .. ))
وفي أقل من دقيقتين ولأول مرة ترد عليه ردا خاصا مباشرة بعد تعليقه هذا
كتبت تقول له .. (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا .. بل أحياء عند ربهم يرزقون ))
اطلب من والديك الدعاء وثق أن الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
كان ردها بلسما شافيا مس شغاف قلبه .. وقعت الآيات التى ذكرتها منه موقعا كأنما هي انزلت له فقط في هذا الموقف ..
اتصل بوالده مرة أخرى ليقول له .. (( ادع لي يا أبي أنت وأمي .. ))
وأغلق معه وهو يسمع منه بان دعائهم لا ينقطع ..
وانطلق الى المقدمة ..
*****

قبل هذا المشهد بخمس دقائق فقط
وفوق مبنى مجمع التحرير كان ذلك الرجل الغامض والهارب من سجنه يتسلل في خفة تامة ولا يكاد أن يصدر عنه أدنى صوت ورصد بعينه موقع القناص المستقر فوق المبني فتوجه خلفه تماما دون أن يشعر به .. واذا بهاتف القناص يعلو صوته فيرفعه الى أذنه ليسمع كلمة واحدة فقط ..
وقبل أن يهبط بعينه على بندقيته اذا به يجد نفسه يطير في الهواء ساقطا من أعلى مجمع التحرير
والرجل الغامض يميل بعينه بدلا منه على عدسة البندقية المقربة ويفحص المجال المثبتة عليه
ولمحه ..
لمح ذلك الرجل الذي اتصل بالقناص واشار بيده نحو كريم
فصوب البندقية الى منتصف رأسه ليرديه قتيلا ..
وقام بمنتهى الهدوء ليغادر هذا السطح متجها نحو خطوته التالية والهامة جدا ..
بينما في نفس التوقيت فزع كريم من كمية الدماء التي تطايرت عليه من رأس الرجل المجاور له وشعر بالهلع الشديدة وهو يراه يخر صريعا أمامه
وفي حركة تلقائية اندفع البعض نحو القتيل ظنا بأنه أحدهم وشهيدا منهم ولكن حين مد أحدهم يده ليرى بطاقة هويتة ليجد بأنه ضابط بأمن الدولة في مفاجأة عجيبة وغير مفهومة ..
جعلت كريم لا يهتف سوى بجملة واحدة .. (( فالله خير حافظا . وهو أرحم الراحمين ))
ضم كريم ياقة معطفه الكثيف ليستمد بعض الدفء منه وسط هذا البرد وهو يستند بظهره إلى أحد أعمدة الإنارة بوسط ميدان التحرير .. كان يرتجف ومشاعره كلها مبعثرة بشكل لم يعهده أو يجربه من قبل ..
كان الوقت قد انتصف منه الليل .. ولم تكن ليلة عادية أبدا .. فالمشهد لو رآه في أحد أفلام الحركة لحكم عليه بالمبالغة .. والصورة جديرة بأن يتم نقشها في لوحة أسطورية تحكي عن مرحلة تاريخية غير مسبوقة ..
في الليلة الماضية التي قضاها بالميدان كان هذا الوقت إما للسمر أو الراحة ..
ولكن هذه الليلة كانت ليلة النيران المشتعلة عليهم من كل صوب ..
فمنذ العصر وبعد دخول قوافل البعير والخيول عليهم تحمل عددا لا بأس به من محترفي الإجرام لتفريق الجمع المتوحد بالميدان منذ جمعة الغضب .. وعلى مداخل الميدان المتعددة كانت فرق الهجوم بالحجارة المقذوفة عليهم لا تكل ولا تمل .. بل يتم تغيريهم في مناوبات متصلة ورجال الميدان في مواجهة مستمرة معهم بلا راحة ..
ومن أعلى العمارات كانت قذائف اللهب تنهمر عليهم كأنما هي الشهب لتهبط عليهم في أمل أن تحرق فيهم جذوة المقاومة والصمود وربما الأمل في نجاح هذه الثورة
وأخيرا مع دخول الليل بدأت طلقات الرصاص مجهولة المصدر تحصد الأروح بعناية وانتقاء من بينهم
برودة الجو مع الخوف الشديد الذي اكتنف كريم جعل ارتعادته لا تتوقف أبدا
وأخيرا بعد إغلاق هاتفه وصمته التام لمدة عشر دقائق مع ثورة بركانيه تعتمل بداخله
قام منتصبا وعيناه تحملان تصميما جديدا عليه
وبريقا يشق طريقه إليهما لينير له دربه الجديد
واندفع الى مقدمة الصفوف ليحمل الحجارة ويقذفها ليساعد في صد الهجوم التتاري وصوته يهدر قائلا
.. (( الله أكبر .. الله أكبر .. ))
ولأن صيحته كانت تخرج من أعماق قلبه .. فقد اخترق صداها الكثير من القلوب ليشحذ فيهم الهمة ويقتل فيهم التردد أو الخوف
وبدأت الأعداد تزحف من المؤخرة للمشاركة في قوة المقدمة وهتافه لا ينقطع ..
وتقدم أحدهم ووقف بجواره ورفع جواله الى أذنه وهتف بكلمة واحدة وهو يشير نحوه ..
وبعدها بدقيقتين انطلقت رصاصة لتستقر في منتصف الرأس .
*****
ولأن عهدنا بهذه الثورة أنها قلبت كل الموازين وأخرجت العملاق الساكن والراقد في قلوب الكثير من المصريين .. لن يكون جديدا ذكر أن صورة كريم هذه مغايرة تماما لما كان عليه في الأيام السابقة
كريم خريج إحدى الأكاديميات الخاصة التي أهلته ليعمل في مجاله الذي يعشقه .. وهو تصميم مواقع الانترنت وبرمجتها بشكل كامل ..
يتميز بشخصيته المرحة خفيفة الظل وتلقائيته وبساطته المعهودة .. يعطي جل وقته لعمله مع مدونته التي لا تحمل سوى ما يعشق من مواقف مرحة سواء مكتوبة أو مرئية أو مسموعة وأغان خفيفة عربية وأجنبية هي ما تعبر عن ذوقه العام ..
وبالطبع كان التفاعل معها وبها كثيفا وخاصة مع الجنس اللطيف ..
ومع خفة ظله المعهودة كانت معارفة وصداقاته معهن كثيفة ومتنوعة وكم خاض من تجارب عاطفية متنوعة جعلته أخيرا يزهد الجميع ويكتفي فقط بالمشاكسة والمسامرة ...
ومن المؤكد أنه لم يكن متابعا لأي حدث سياسي ولا يهتم به بل كان نادرا ما يتابع بعض الأخبار عبر بعض المواقع التي يعمل على صيانتها ..
فهو الابن المدلل والوحيد لوالدين من ميسوري الحال .. لديه السيارة الفارهة .. وطلباته كلها مجابة
لا ينقصه شيء .. ومن أهم الأشياء التي تربى عليها ..
ألا ينشغل ولا ينجذب لأصحاب اللحي أو من يرطنون بكلمات تتميز بمصطلحاتها الغامضة مثل الأمبريالية واليسار التقدمي وطبقة المغيبين وما إلى ذلك ..
لأن مصير كل هؤلاء حتما خلف الأسوار ..
فما الذي يجبره على مجابهة كل تلك المصاعب والمشاق وهو لا ينقصه شيء ؟
حتى أجبرته الظروف على دخول تلك المدونة ..
شاب أراد إنشاء موقع اليكتروني جديد وأثناء الاتفاق معه على شكل التصميم والإمكانات المتاحة بالموقع
طلب منه الشاب أن يضع ضمن الشكل الرئيسي في مقدمة الموقع تصميما مشابها لذلك الموجود بتلك المدونة ..
للوهلة الأولى ظن كريم بأنه أمرا تافها وأخبره بأنه سينفذه له بما يريد ..
كانت المدونة اسمها الخنساء مكتوبة بشكل جديد يملأ فراغا كبيرا من أعلى الصفحة وهناك مسافة بين حرفي النون والسين وبينهما صورة صغيرة دخل دائرة اطارها يشبه إطار الكرة الأرضية وهذه الصورة الصغيرة متغيرة بشكل مستمر ودائم وكل صورة مرتبطة بحدث إخباري منتقى بعناية من المواقع الإخبارية المتنوعة والمتخصصة ..
ظن كريم بأن الأمر يسير وهي عدة أخبار يتم وضعها في أول اليوم ثم تغييرها وتحديثها بعد عدد معين من الساعات ولكن ما أدهشة بأن الصور والأخبار المتعلقة بها لم تكن تتكرر أبدا فالحدث يعرض مرة واحدة طوال اليوم ..
ظل كريم يبحث ويفكر في الطريقة التي يمكن بها فعل ذلك وأعجزه الأمر فلجأ لأيسر الطرق الاتصال بصاحبة المدونة وسؤالها عن الطريقة أو الكود الذي نفذت به الفكرة ..
ولكن لم يأته الرد ..
أخذ يتجول بالمدونة ليتفاعل معها بالردود لكي يلفت انتباه صاحبهتا اليه وبعدها يطالبها بالرد على بريده
وبينما هو يتجول إذا به لأول مرة يرى موضوعا قديما بها عن شاب يدعى خالد سعيد
كانت صورته الباسمة الأنيقة واللامعة في صدر الموضوع توحي بأنه شاب يشابهه في كل شيء
ولكن هاله ما قرأه عنه
وارتجف بدنه قوة وانخلع قلبه عندما رأى صورته الجديدة في آخر الموضوع
كانت صورة تناقض الأولى في كل شيء
وجه مهشم ومشوه بشكل بشع يطل الموت عليه بأبشع آماراته
رغما عنه أدار المؤشر لأعلى الصفحة ليقارن بينها وبين الأخيرة وهو غير مصدق بأن صاحب الصورتين هو شخص واحد
ولأول مرة يدرك كريم بمعنى الموت ..
ولأول مرة يخشاه بصدق .. فهو لم ييتفكر فيه من قبل .. بل ربما نسى بأن هذا المصير ينتظر الجميع ..
وأخذ كريم يقارن بينه وبين هذا الشاب وتخيل نفسه في موضعه
وكانت هذه هي المقدمة لأن يرتبط بهذه المدونة بشكل خاص ويبدأ في التفاعل الحقيقي بكل مشاعره مع كل إدراجاتها وقد تناسى تماما هدفه من الدخول إليها ..
وبعد أن التهم كل المواضيع القديمة بها والتي كانت تتنوع ما بين الدينية والإخبارية مع بعض السياسة الخفيفة ..
أصبحت قرائته الصباحية لكل موضوع جديد تشرق معه شمس اليوم في هذه المدونة .. هي جلسة أهم من إفطاره وكوب الشاي الساخن المقدس لديه قبل بدء عمله
وأصبح اسم الخنساء بالنسبة اليه شيئا جذابا يضفي الكثير على حياته ..
اسم بدأ يسلخه من حياته الى حياة جديدة
بعد يأسه من ردها عليه في أي موضوع أصبح فقط يتخيل تلك الخنساء صاحبة المدونة الغامضة والخفية التي تضع المواضع وعبر أكثر من مائتي موضوع
ردت مرة واحدة لتعتذر بجملة مقتضبة عن خطأ إملائي غيَّر معنى الشطر التي كانت به ونبهها إليه أحد القراء في رده عليها ..
هنا علم بأنها تتابع حتما كل الردود على مواضيعها وإدراجاتها ولكن تترفع عن الرد على الجميع ..
ولأنه لم يعهد هذه النوعية من قبل .. ولأن الممنوع مرغوب والبعيد يصبح هو المبتغى دوما
ولأنه لم يفشل يوما في أن يلفت انتباه أي فتاة من قبل ..
قرر أن يخوض معركته معها وهو يقسم بينه وبين نفسه أنه حتما سيصل معها إلى أن ترد عليه ردا خاصا في يوم ما ..
بعد متابعته الدائمة لها علم أنها تهدف إلى التدين ونشره والدعوة اليه ..
لذا وبعد أن علم بمتابعتها لكل الردود بدقة ..
جاء رده على موضوع جديد لها كتبته بعنوان الدقائق الغالية .. كان موضوعا عن ركعتين فقط في جوف الليل وفضلهما وكيف أن الدعاء فيهما يسمى بسهام الليل وما له من أثر فعّال ..
رغم تأثره بالموضوع فعلا إلا أنه كتب ردا مزج فيه هذا التأثر مع رغبته في جذبها للرد عليه ..
كتب يقول (( هذا عمن يحافظ على صلواته .. فماذا عمن لم يركعها من قبل .. كيف السبيل إلى ذلك ؟ ))
وجاء الصباح التالي ليحمل له مفاجأة .. كان تاركا صفحة الموضوع مفتوحة منذ الأمس وعند الصباح قام فقط بإعادة تنشيط الصفحة ليرى الردود الجديدة على الموضوع وهو يتمنى أن يجد لها ردا
ولم يجد ..
شعر بخيبة أمل فقام بالذهاب للرئيسية ليرى موضوع اليوم الجديد ..
وهنا وجد الرد .. فقد كان الموضوع الجديد عن كيفية الالتزام بالصلاة والمواظبة عليها والمحفزات لذلك وما هي المثبطات وكيفية التغلب عليها ..
كانت الفرحة تكتنف كل جوانح كريم وتتمكن منه ..
فقد شعر بتفاعلها معه وقرأ الموضوع كأنما هو حوار بينهما ..
وكانت البداية لأن يلتزم بالصلاة فعلا ..
وأخيرا عرف كيف السبيل اليها ..
كل ثلاثة أيام يضع تساؤلا ليجد الرد في موضوع كامل ..
كان كريم يندهش بقوة للتغير الذي طرأ عليه ..
كم من الفتيات يطاردنه وقائمة برامج التحاور معه مليئة بمئات منهن ورأى صور الكثيرات وأقلهن جمالا يقال عنها فاتنة والله أعلم بهذه الخنساء وكيف تكون ..
فكيف زهد فيهن بهذا الشكل ..
وأصبحت تلك المحاورة الرمزية هي النشوة الحقيقة التي يتجرعها كل صباح ..
وأخيرا اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير
لتتوقف المحاورة ولتصبح المدونة فقط نقل حي وتفاعل موسع لأحداث الثورة انقطعت خدمة الانترنت ليتوقف كل ذلك ولتعود مرة أخرى صباح الأول من فبراير وعادت المدونة حاملة معها كل الأحداث الحية لحظة بلحظة وردا على الشبهات المنطلقة عنها
ووجد أن التفاعل معها لن يكون إلا بالحديث عن هذه الثورة .. ووجد موضوعا لها يقول ..
(( رجال التحرير في الميدان )) كانت تتحدث فيه عن أن القابعون في ذلك الميدان هو الرجال حقا
وأن من لم يقم بزيارة الميدان يوما في هذه الأحداث مع قدرته على ذلك فهو لا يستحق أن يتنسم عبير الحرية في هذا الوطن ..
وجد كريم بأن خير رد عليها في هذا التوقيت أن يذهب لذلك الميدان وعبر جهازه الخاص والمخصص لإستعراض شبكة الانترنت والمشابه للجوال .. هناك يمكنه بث صورا وأخبارا في ردوده اليها
وحتما ستتفاعل معه ..
جلس أولا يتابع أخبار الميدان .. وجد أنه به مئات الآلاف والكثيرون يذهبون ويعودون منه بلا أي عوائق
وكثير من ضيوف البرامج الحوارية يتحدثون عن أنهم عادوا توا من هناك والوضع كذا وكذا
بل إن رئيس الوزارء الفريق أحمد شفيق صرح بأن من يريد مغادرة الميدان لن يتم ملاحقته أمنيا أبدا بل له كل الأمن والأمان ..
اذا هي تجربة سهلة ولكن ستمثل فارقا كبيرا مع معركته الكبرى والخاصة مع الخنساء ..
وذهب الى الميدان ..
ليبدأ التحول الحقيقي والكبير في حياته ..

كان يظن بأن هؤلاء الماكثون بالميدان هم حتما من يعانون البطالة و لديهم الوقت لذلك ..
ولكن ..
وجد كل الفئات والأعمار والاتجاهات متواجدة به ..
صاحب الأعمال التي عطلها وجاء
الطالب والعامل والموظف والمدير والبواب وكل الوظائف متواجدة ومتجاوره
بل وجد كل التيارات التي سمع عنها بمدونة الخنساء
الإسلاميون واليساريون والليبراليون والنصاري في مشهد متفرد ونادر
متجاورون ومتحدون ومتحابون
وجد مشاعر ملائكية بين الجميع .. لم يعهدها أو يسمع عنها من قبل .. ولأول مرة يجد أن بضع تمرات يجتمع عليها الجميع وتكفيهم كمؤنة ولغذاء ربما يوم كامل ..
وكما تقول الحكمة الشهيرة .. ليس من راء كمن سمع ..
فقد كان تفاعله مع مواضيع الخنساء من قبل تفاعلا شاحبا ..
صحيح أنها غيرت الكثير من أفكاره وقومت بعض سلوكه ..
ولكن في الميدان تغيرت كل مشاعره وربما كل حياته .. لأول مرة يشعر بأن الحياة يجب أن يكون لها هدف واضح لكي تشعر بقيمتها ..
لأول مرة يعلم بأن المتعة الحقيقية ليست في نيل الشهوات
وإنما ربما أقصاها في مجابهة المشاق و المصاعب
وبعد أن كان هدفه الحقيقي من هذه الزيارة هو أن يحاور الخنساء شعر بتفاهته وأصبح هدفه الواقعي هو أن ينهل من هذه الخيرات والرحمات المتدفقة بميدان التحرير ..
ولأول مرة يبيت هكذا في العراء بين شباب التحرير
ليأتي اليوم الثاني بتطور كبير ونوعي .. وسميت أحداثه بمعركة الجمل
كان طوال اليوم يذهب بعيدا عن مقدمة الأحداث خائفا ومتوجسا من أي ضرر قد يناله ..
طوال اليوم يجد المصابون من حوله يمرون في موجات من الأمام للخلف وهم غارقين في دمائهم
ولكن سريعا تعود هذه الموجات وسط كل ضمادتها الى الأمام مرة أخرى
كانت حياة جديدة تبث من حوله في هؤلاء البشر الذين ظن في البداية بأنهم ما جلسوا هنا إلا لكامل طمأنينتهم بانتفاء الضرر
وأن كل معاناتهم لا تتعدي الجوع والبرد
وأخيرا أتته مكالمة والده التي مزقت نياط قلبه والتي ترجوه بأن يعود إليهم سالما فهو وحيدهم وهو الهدف الوحيد الذي يعيشون لأجله وأن أي ضرر يمسه إنما فيه مواتهم التام
فتح كريم جهازه وذهب مباشرة لمدونة الخنساء وكتب ردا على آخر موضوع لها ليقول لها فيه ..
.. (( الجو بارد ومخيف والموت يقتنص من حولي في ميدان التحرير وأبي وأمي يتربص بهم الموت خوفا علي وأنا وحيدهم .. ماذا أفعل ؟؟ .. ))
وفي أقل من دقيقتين ولأول مرة ترد عليه ردا خاصا مباشرة بعد تعليقه هذا
كتبت تقول له .. (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا .. بل أحياء عند ربهم يرزقون ))
اطلب من والديك الدعاء وثق أن الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
كان ردها بلسما شافيا مس شغاف قلبه .. وقعت الآيات التى ذكرتها منه موقعا كأنما هي انزلت له فقط في هذا الموقف ..
اتصل بوالده مرة أخرى ليقول له .. (( ادع لي يا أبي أنت وأمي .. ))
وأغلق معه وهو يسمع منه بان دعائهم لا ينقطع ..
وانطلق الى المقدمة ..
*****

قبل هذا المشهد بخمس دقائق فقط
وفوق مبنى مجمع التحرير كان ذلك الرجل الغامض والهارب من سجنه يتسلل في خفة تامة ولا يكاد أن يصدر عنه أدنى صوت ورصد بعينه موقع القناص المستقر فوق المبني فتوجه خلفه تماما دون أن يشعر به .. واذا بهاتف القناص يعلو صوته فيرفعه الى أذنه ليسمع كلمة واحدة فقط ..
وقبل أن يهبط بعينه على بندقيته اذا به يجد نفسه يطير في الهواء ساقطا من أعلى مجمع التحرير
والرجل الغامض يميل بعينه بدلا منه على عدسة البندقية المقربة ويفحص المجال المثبتة عليه
ولمحه ..
لمح ذلك الرجل الذي اتصل بالقناص واشار بيده نحو كريم
فصوب البندقية الى منتصف رأسه ليرديه قتيلا ..
وقام بمنتهى الهدوء ليغادر هذا السطح متجها نحو خطوته التالية والهامة جدا ..
بينما في نفس التوقيت فزع كريم من كمية الدماء التي تطايرت عليه من رأس الرجل المجاور له وشعر بالهلع الشديدة وهو يراه يخر صريعا أمامه
وفي حركة تلقائية اندفع البعض نحو القتيل ظنا بأنه أحدهم وشهيدا منهم ولكن حين مد أحدهم يده ليرى بطاقة هويتة ليجد بأنه ضابط بأمن الدولة في مفاجأة عجيبة وغير مفهومة ..
جعلت كريم لا يهتف سوى بجملة واحدة .. (( فالله خير حافظا . وهو أرحم الراحمين ))
توقيع العضو - ḋเă₥๏ňḋ ĢเŖŁ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

الفرقة 77 .. رواية بقلم د. أحمد مراد

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» رواية قلبي مملكةغير امورتــــــــــــــــي محد يملكة..
» كنت اشوفك شي ثاني ! رواية إماراتيـة
» رواية اجمل غرور كامله
» في مسرح الجريمة قصة بوليسية ( على حلقات بقلم محمود غسان )
» ^^^ رواية قصة جني ^^^

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: ● الأقــسـآم الأدبــية .. :: ¬ عآلم القصص والروآيات | World of Stories-